مقالات

خارطة طريق تعلم الكوتشينج

خارطة طريق تعلم الكوتشينج

لعل أكثر سؤال جاءني منذ أن بدأت تدريب الكوتشينج هو: ما هي خريطة طريق تعلم الكوتشينج؟ وما هي مراحل تعلمه؟ وحيث إن الكوتشينج يعتبر مهنة وليدة ويعرض لها عدد من المؤسسات المختلفة، فليس هناك منهج موحد لدراسته، بل إن في المدرسة الواحدة قد يختار المدرب طريقاً ويختار زميله طريقاً آخر

وبمراجعة الدورات المعروضة حالياً، وجدت أن من الضروري أن يسير المتدرب على خطة منهجية سليمة لتعلم الكوتشينج بدلاً من التتبع العشوائي للدورات. فإن غياب التأسيس السليم والدراسة ذات المسار المبني على أسس علمية يؤدي إلى الكثير من ضياع الوقت والجهد والمال، وفي الغالب لا يوصل إلى تعلم الكوتشينج باحترافية بل إلى العكس. بل إن المسارات الخاطئة لتعلم الكوتشينج قد تؤثر سلباً حتى على الصحة النفسية للكوتش. لهذا رأيت أن من أمانة العلم رسم خريطة تفصيلية توضح للطلبة مسارهم واختياراتهم، ومعايير الاستمرار والتوقف

قبل توضيح المنهج الذي وضعتُه لتعلم الكوتشينج، ينبغي التقديم بأن هذا المنهج ليس سهلاً وليس سريعاً، ولا يناسب الراغب في حضور دورة أو دورتين سريعتين بغرض الحصول على الشهادة، بل هو منهج طويل المدى مفصل بشكل مدروس يهدف إلى إخراج كوتش متمكن على على أعلى مستوى، وهو بطبيعة الحال ما يعني أنه لن يناسب الكل. ولكن في جميع الأحوال يمكن للطالب أن يستفيد من التفاصيل المذكورة في اختيار مساره الخاص على بصيرة بما يحتاج إليه في كل مرحلة. وقبل أن نشرع في توضيح المنهج، ينبغي أن نؤسس بعض المبادئ المهمة عن الكوتشينج وتعلمه

مبادئ مهمة

الكوتشينج متجذر في علوم عميقة

ليس الكوتشينج (كما يظن البعض) حفنة من المهارات التحفيزية أو الأدوات الخاصة بإدارة الحياة، بل هو فن ذو جذور عميقة تمتد في علم النفس وفي غيره من العلوم. بل يمكن اعتبار الكوتشينج هو الفن التطبيقي لعلم النفس الإيجابي. يعرف بروفيسور مارتن سيلجمان (Seligman and Csikszentmihalyi, 2000) علم النفس الإيجابي بأنه “الدراسة العلمية للأداء الإنساني الإيجابي وازدهاره في مستويات متعددة تتضمن الأبعاد الحيوية، والشخصية، والعلاقاتية، والمؤسساتية، والمجتمعية، والعالمية لحياته”. ولكن علاقة الكوتشينج بعلم النفس لا تقف عند الإيجابي منه، بل تتجذر كذلك في مدارس متنوعة تختلف في صرامتها الأكاديمية مثل علم النفس المعرفي السلوكي، والبرمجة اللغوية العصبية، ونظرية النظم، وغيرها

المهارة تكمن في التفاصيل لا في العناوين

لو أردت معياراً واحداً لاختيار برنامج تدريبي، فانظر عناية المدرب بالتفاصيل والفروق الدقيقة. فإن التعامل مع “شيء” بتعقيد النفس البشرية بتقلباتها وأحوالها وتعقيداتها ليس بالبسيط الهين، بل يحتاج إلى اهتمام فائق بالتفاصيل، وتمييز المهم منها من غير ذي المغزى، والملاحظة الدقيقة للمعاني العميقة التي تنشأ منها الأدوات التطبيقية والأطر النظرية، بدون اكتساب (بل إحكام) مهارة التدقيق وتمييز الفروق لن يتمكن الكوتش من قطع مسافة بسيطة في هذا المسار. فكل أداة من أدوات الكوتشينج يمكن تطبيقها بشكل لا يؤتي ثماره أو حتى يتسبب في نتيجة عكسية. فالفارق بين الكوتش المتقِن وغيره هو العناية بالتفاصيل المهمة وقدرته على إحكامها

تعلم الكوتشينج يحتاج لوقت

مما يترتب على النقطة السابقة أن تعلم الكوشتينج يحتاج إلى وقت، ولا يجتمع إتقانه مع العَجَلة أبداً. فكما سبق، كل أداة من أدوات الكوتشينج فيها تفاصيل متنوعة، وإتقان استعمالها على الوجه الصحيح يحتاج لجهد ومثابرة وتصحيح متكرر. فمع تنوع السياقات والحالات التي يتعامل معها والخبرات المتقاطعة معها تنبني المهارة وتتراكم المعرفة ويترقى المتدرب عبر مراتب الاحتراف بشكل صحي ومتوازن. أما التدريب المتعجل المفتقر للمنهجية فكما سبق لن يقود إلى الإتقان أبداً

فبناءً على ما تقدم يمكننا أن نشرع في توضيح مراحل تعلم الكوتشينج بشكل تفصيلي

مراحل التعلم

مراحل تعلم الكوتشينج
مراحل تعلم الكوتشينج

المرحلة الأولى: بناء الأساس

أهم ما يميز هذه المرحلة أنها تمثل نقلة نوعية في طريقة التفكير وفي مهارات التواصل وفهم النفس. في مرحلة بناء الأساس يتعلم المتدرب الآتي

  • مهارات الملاحظة الدقيقة
  • إدارة الحالة
  • لغة العقل
  • بناء الألفة
  • الإطار العام لعمل النفس الإنسانية
  • بعض النماذج العميقة للحالات النفسية
  • وغير ذلك كثير

والمقترح في البداية هو حضور الدورات الآتية بالترتيب

  1. دورة ممارس البرمجة اللغوية العصبية
    هذه الدورة تمثل أحد أهم أساسات الكوتشينج. بل إني لا أعد نفسي مبالغاً إن قلتُ إنه لا يكاد يوجد كوتشينج فعال بدون إتقان للبرمجة اللغوية العصبية أولاً. ففي هذا البرنامج يتعلم المتدرب نماذج وأُطُراً مهمة لفهم آليات التواصل وبعض المبادئ السايكولوجية المهمة. كما أنه يتعلم ويتدرب على مهارات أساسية هي للكوتشينج كالإملاء والنحو للغة، مثل مهارات بناء الألفة، وتطبيقات نموذج التواصل، ولغة العقل، والنموذج الماورائي للُّغة، وشحذ مهارات الملاحظة، والتواصل اللفظي وغير اللفظي، وغير ذلك
    بدون هذه الدورة سيصبح الكوتش كالكاتب الذي لا يُحسن الإملاء أو يلحن في قواعد الإعراب، ربما أمكنه أن يكتب في مواضيع بسيطة، لكنه لن يصبح أبداً محرراً في مؤسسة إعلامية كبرى
    تتراوح مدة الدورة بين سبعة وعشرة أيام تدريبية كاملة، بمعدل ٩ إلى ١٢ ساعة يومياً، وهذا بالكاد يغطي المادة المطلوبة، ويبقى بعد ذلك من الواجب على المتدرب أن يستعمل جميع ما تعلم ما لا يقل عن ستة أشهر من التطبيق المستمر والمتابعة مع مُشرِف حتى يتقن مفاهيم وأدوات البرمجة، فقط هنالك يمكنه الانتقال للدورة التالية
  2. دورة بناء العبقرية
    وتُعرف بتحقيق العبقرية الشخصية، وغير ذلك. تأتي هذه الدورة مدرسة النيوروسيمانتكس كدورة تأسيسية لأحد أهم النماذج السايكولوجية، وهو نموذج الحالات الماورائية (Meta-States Model). قام بوضع هذا النموذج د. مايكل هول كنموذج موحد لتوصيف وتعديل الحالات الذهنية والشعورية. بالإضافة إلى الأساس المعرفي القوي في هذه الدورة، يتعلم المتدرب كذلك أربع عشرة أداة تفصيلية تخدم أغراضاً مختلفة ما بين إدارة المشاعر، وتصحيح المفاهيم، وتطوير القدرات الذهنية، وغير ذلك من الأدوات التي تفيد في تعلم الكوتشينج
    مدة الدورة من ثلاثة إلى ستة أيام تدريبية كاملة، بمعدل ٩ إلى ١٢ ساعة يومياً، ويحتاج المتدرب بعدها لنحو شهرين إلى أربعة أشهر لإتقان الأدوات والمفاهيم التي تعلمها فيها، بالإضافة إلى قراءة المادة العلمية المتلقاة بالتفصيل

أهم ما يحتاجه المتدرب الراغب في تعلم الكوتشينج تعلماً راسخاً أن يهتم بترسيخ الأساس، وأن لا يتعجل الانتقال للمرحلة التالية، وهو ما يكون بالتطبيق العملي المستمر، والمراجعة والتدريب وتلقي التغذية الراجعة من المشرف، وتدوين الملاحظات والتأمل في الخبرات (Hullinger et al., 2019). ومن الجدير بالذكر أن هتين الدورتين بمفردهما يكفيان للعمل في مجال المساعدة النفسية والدعم بشكل كامل، حتى قبل دراسة الكوتشينج ذاته، وهو ما يساعد الطالب على تكوين قاعدة قوية يبني عليها أعمدة الكوتشينج الاحترافي

المرحلة الثانية: تعلم أطر الكوتشينج

في هذه المرحلة يبدأ الكوتش في تعلم الكوتشينج، ما هي مبادئه، وما هي أدواته المختلفة، وكيف يستخدم تلك الأدوات في إطار كلي متكامل لخدمة العميل. والمقترح لهذه المرحلة الدورات التالية:

  1. دورة خارطة الكوتشينج
    تمثل هذه الدورة أحد الأطر العامة لتعلم الكوتشينج، وهي في الحقيقة إطار عمل يصلح لمهن الدعم النفسي بشكل عام. في هذه الدورة يتعلم المتدرب الطبيعة العامة لجلسة الكوتشينج الاحترافية، وكيفية تنظيم وقت الجلسة، وصناعة الهدف، وتخطي الكثير من العقبات التي تستنزف من وقت وطاقة الجلسة بما لا يخدم الهدف، وذلك من خلال إطار عام يتبعه عدد من الأدوات التفصيلية لفتح أبواب العميل المغلقة، وتفتيت المشاكل بشكل جذري
    مدة الدورة ٤ أيام بمعدل ٥ ساعات يومياً. ويحتاج إتقان محتواها لنحو ٣٠-٥٠ ساعة كوتشينج تطبيقية
  2. دورة كوتشينج التغيير
    وهي إحدى دورات مدرسة النيوروسيمانتكس والتي قمنا بتطويرها والإضافة إليها كثيراً في مؤسسة مصطفى محسن، وفيها يدرس المنهجية العلمية والتطبيقية لصناعة التغيير، وفيها يتدرب على أحد أهم النماذج المستعملة في صناعة التغيير وهو نموذج محاور التغيير. بالإضافة إلى مجموعة من الأدوات التطبيقية التي تمكن الكوتش من مساعدة عملائه على إحداث التغيير العميق الذي يرغبون فيه
    مدة الدورة ٣-٤ أيام تدريبية بمعدل ٥-٨ ساعات يومياً. ويحتاج المتدرب لنحو ٢٠-٣٠ ساعة كوتشينج تطبيقي باستعمال أدواتها لكي يتقنها
  3. دورة كوتشينج الماتركيس
    وهي من الدورات العميقة متعددة الأبعاد، والتي تضيف إلى عملية تعلم الكوتشينج بعداً جديداً وهو المقاربة النُّظُمية (Systemic approach) لفهم النفس، مع أدوات مفيدة لتتبع الأطر واكتشاف المعاني العميقة ومعالجتها

المرحلة الثالثة: شحذ الأدوات والتعمق

الهدف من هذه المرحلة التعمق الرأسي بمفاهيم وأطر وأدوات الكوتشينج إلى مرحلة أعمق. وتتسم بالتركيز على التفصيلات الدقيقة والأدوات العميقة. ويمكن للراغب في تعلم الكوتشينج باحترافية الدخول في هذه المرحلة بعد إتمامه حوالي ٢٠٠ ساعة تطبيقية احترافية أو أكثر

  • دورة ممارس متقدم البرمجة اللغوية العصبية
    هذه الدورة من أعمق وأهم الدورات التي تأخذ بمهارة وعلم الكوتش إلى أعماق لا تتحقق بدونها البتة. وتحتوي على عدة وحدات يمكن دراسة كل منها على حدة، وأهمها:
    • دورة مسارات العقل (Mind Lines)
      وهي من أهم الدورات عن مفهوم “الأُطُر” وكيفية التعامل معها
    • دورة مفاتيح الشخصيات (Figuring out People)
      وفيها تفصيلات مهمة عن “البرامج العقلية الماورائية” (Meta-Programs) وأنواعها وكيفية توظيفها لخدمة العميل
    • النمذجة المتقدمة (Advanced Modeling)
      وهي نقلة نوعية للكوتش من حيث فهمه لآليات النفس البشرية وتعرفه على التجربة الذاتية للعميل وتوظيفه لموارده الشخصية
  • دراسة نظرية النُّظُم والسايبرنتيكس. وبعض هذه الدراسة يقع في دورة كوتشينج الماتريكس التي في المرحلة السابقة، ولكن في هذه المرحلة ينبغي التعمق بقراءة الكتب التأسيسية، مثل كتابات جريجوري بيتسون، وبيتر سينج، وغيرهما. وتكمن أهمية تلك القراءات في توسيع أفق الكوتش وتقوية مَلَكاته العقلية في التعامل مع الحالات المعقدة من الكوتشينج
  • دراسة علم الدلالات العامة. وهذا اختياري تماماً، ولا أنصح بدراسته إلا تحت إشراف متخصص نظراً لصعوبته ولوجود بعد الانتقادات الموجهة إليه. ويمكن تخطيه بالكلية

المرحلة الرابعة: التوسع في تعلم الكوتشينج

لا أنصح بأن ينتقل الكوتش إلى هذه المرحلة إلا قبل إتمام ٦٠٠ ساعة كوتشينج احترافي على الأقل، وإلا فلن يستفيد الاستفادة المطلوبة من استثماره وقته وجهده وماله في هذه الدورات. فمن أمثلة هذه الدورات

  • كوتشينج المجموعات والفِِرَق
    وهي من أهم الدورات لتطبيقات الكوتشينج الجماعية، سواء في سياق العلاقات الشخصية أو الشركات والمؤسسات أو أي نوع من المجموعات. فيها سيتعلم الكوتش مجموعة جديدة من الأدوات والمهارات وأطر الكوتشينج الخاصة بالمجموعات والفِرَق، والتي تضيف إلى حصيلته السابقة في تعلم الكوتشينج
  • كوتشينج التنفيذيين
    وهي دورة تأخذ بمهارات الكوتش إلى حيز التطبيق في سياق المديرين التنفيذيين والقادة. فيتعلم أنواعاً مختلفة من حوارات الكوتشينج، وقواعد جديدة مهمة للعمل مع هذه الفئة الخاصة. ينبغي التنبه إلى أن تعلم الكوتشينج الخاص بالتنفيذيين لا يناسب إلا ذوي الخبرة المهنية المسبقة خصوصاً في الشركات المؤسسية

المرحلة الخامسة: التطوير والإضافة

هذه هي مرحلة المنتهين في تعلم الكوتشينج، الذين اكتملت لديهم المعرفة وتم لهم التمكن من الكوتشينج وأدواته وعلومه، وقضوا في ممارسته ما لا يقل عن ٢,٠٠٠ ساعة تطبيقية احترافية بخلاف الدراسة والتدريب والقراءة، وقرأوا وتدربوا على جميع أدواته وأطُرِه حتى بلغوا مبلغ الأساتذة في كل من ذلك. هنالك تكون الانتقالة النوعية لهم بالبدء في تدوين الخبرات، وتطوير المفاهيم والأدوات، والإسهام في البحث العلمي الخاص به سواء أكاديمياً أو مهنياً احترافياً. هنا ينبغي على الكوتش التوسع في الآتي

  • دراسة مناهج البحث العلمي
  • دراسة علم النفس الإيجابي، ونظرياته المختلفة وقراءة الأبحاث الحديثة فيه
  • دراسة نظرية النُّظُم، وما يتعلق بفلسفة النظم وتطبيبقاتها
  • تطوير أطر الحلول المختلفة للمشاكل الشائعة

وبهذا نكون قد فرغنا من منهجية تعلم الكوتشينج بشكل تفصيلي. في حالة وجود أية استفسارات يرجى التواصل معنا ويسعدنا أن نكون في دعمكم وإفادتكم

مراجع

  • Hullinger, A., DiGirolamo, Joel.A. and Tkac, T., (2019) Reflective Practice for Coaches and Clients: An Integrated Model for Learning. Philosophy of Coaching: An International Journal, 42, pp.5–34.
  • Seligman, M. and Csikszentmihalyi, M., (2000) Positive psychology. An introduction. The American psychologist.
انشر هذه المقالة على
Scroll to Top