“إنها ليست قطعة حلوى، إنها صورة ترتسم في ذهنك، ترتسم بطريقة معينة براقة منمقة جذابة، فهي ليست قطعة حلوى، بل هي مكافأتك على مجهودك أو متنفس همك، فهي تمنحك الشعور بالسعادة والرضا، أو التقدير الذي لا تجد مثله، فأنت تراها من بنظارة تحجب عن عينيك ما سواها، هي تلك الرقصة خيالية تسبح بك في سماء متناثرة النجوم، تطمح من خلالها إلى استعادة نشاطك وتدعيم وجدانك، هذا هو مفتاح الصبر على متاعب الحياة اليومية”
ليست الفقرة السابقة قطعة أدبية مقتطفة من رواية ما، وإنما تمثيل لأحد أهم المفاهيم العميقة في سايكولوجية الوعي، ولَبِنة مركزية في بناء النفس، ومفهوم يمثل قطب رحى جميع أدوات العلاج النفسي والكوتشينج وتطوير الذات بلا استثناء وهو مستويات المعاني
لكي يتضح المقصود بمستويات المعاني نعرض بعض المواقف الحياتية التي تمر غالباً دون تأمل عميق:
- يبدأ شخص في الحمية الغذائية لكنه يضعف دائماً أمام المشروبات الغازية، أما صديقه فلا
- ينفق مبالغ طائلة لكي يبيت ليلة في الصحراء ليلتقط صور السماء الصافية ويعود في غاية السعادة، أما أصحابه فيعدونه مُسرفاً أو ربما مجنوناً
- تعكف البنت على كتب الدراسة ليل نهار، تحصل على درجات تجعلها من المتفوقات، وبمجرد حصولها على شهادة الجامعة تختار البقاء في المنزل برضى تام
- يذهب رجل إلى صالة رياضية ينفق عليها كثيراً، يجري حتى تنقطع أنفاسه، يحمل الأثقال حتى تكاد تتمزق عضلاته، يضحي بالكثير من المتع، بل وينفق بعد ذلك المزيد من ماله على المكملات الغذائية التي يتطلبها التمرين، ثم يبيت ليلته في رضى تام
دعنا نأخذ المثال الأخير، وعليه يقاس غيره، الصورة المجردة للحدث هي رجل ينفق الكثير من ماله، يرهق نَفَسَه وعضلاته، يضحي بمتعه، وكل واحدة من هذه مظنة السخط أو النفرة، ولكن الواقع ليس فقط بخلاف ذلك، بل إنه على نقيضه! ليس فقط أنه يتحمل هذا بلا سخط، بل إنه يستمتع به، بل يطلب المزيد! فكيف يحدث هذا؟ بل السؤال الأهم: لماذا ليس كل الناس كصاحبنا هذا؟
تكمن الإجابة على هذا السؤال في مفهوم “المعنى”، وأثره في صناعة “الحالة” (مجموع الأفكار والمشاعر والأحاسيس الجسدية). فإن البشر يتميزون بالقدرة على إضفاء معانٍ على الأشياء والأحداث تؤثر على استجابتهم لها، فالذي يرى الحلوى أنها مكافأة ينجذب إليها بخلاف الذي يراها (سُمًّا أبيض) فتراه ينفر منها، مع أن الحلوى هي الحلوى
هذا المفهوم، أي مفهوم المعاني وتأثيرها، من المفاهيم المحورية عميقة الجذور الواجب على كل معتن بالمساعدة النفسية بصورها أن يُتقنها إتقاناً بالغاً. بل لا أبالغ إن قلتُ إنه إن لم يُتقن غيرها لكفته غيرها كله،
مستويات المعاني
يترتب فهم مستويات المعاني على معرفة كيفية معالجة الجهاز العصبي للمعطيات الواردة عليه عن طريق الحواس بوساطة العقل. فإن الجسم لا يتفاعل مع الأحداث والأشياء والأشخاص بشكل مباشر غالباً وإنما بوساطة العقل. يقوم العقل بتمثيل “العالم” داخلياً، فالذي في عقلك الآن ليست هذه الكلمات التي تلتقط حروفها عيناك، وإنما انعكاس داخلي لها تحمله شبكية العين عبر العصب البصري كي تتمثل في عقلك بشكل تفهمه، وتمر هناك بعمليات معرفية شتى، هنالك يستجيب الجهاز العصبي لمحصلة تلك العمليات. الجانب الأهم من هذه العمليات هو صناعة المعنى، والمقصود بالمعنى ما يحمل النفس والعقلُ الحدثَ عليه، وليس التعريف المعجمي. وهذا المعنى له مراتب يؤثر كلٌّ منها في الحصيلة النهائية وبالتالي الاستجابة العصبية. إليك تسعاً من تلك المستويات
مستوى التمثيل
تتمثل التجربة الذاتية للحدث (كرؤية الحلوى) في الذهن في ما يسمى بالخريطة الذهنية. تعبر هذه الخريطة عن التمثيل البصري والسمعي والحسي للتجربة، إلا أنها لا تطابقها بالضرورة مطابقة تامة. جرب أن تتذكر شكل مكتبك وما عليه من أدوات، لعلك ستذكر بعض ما عليه، أو ربما كله. الآن جرب أن تتذكر تفاصيل مصلحة حكومية أو مقر شركة أو مبنى زرته مرة واحدة، في الغالب ستجد تفاصيل أقل بكثير
لكي تعرف أثر التمثيل الذهني في المعنى، تخيل في ذهنك قطعة حلوى شهية أو طعام ما تحبه، ولاحظ كيف يستجيب جهازك العصبي لهذه الصورة المتخيلة، فلربما تحركت معدتك بالجوع أو شعرت بالرغبة، بل ربما استجابت الغدد اللعابية وبدأت في إفراز اللعاب. والآن تخيل نفس الطعام بالضبط ملقى كما هو وسط القمامة أو على أرض مليئة بالأوساخ، ولاحظ كيف يستجيب جهازك العصبي لنفس الصورة
لنجرب مثالاً آخر. تخيل رجلاً أو امرأة يوجه اللوم إليك على شيء لا يد لك فيه وانظر كيف ستتحرك مشاعرك. والآن تخيل نفس المشهد معه صوت ضحكات تسخر من ذلك الرجل أو المرأة، كيف تختلف الصورة الثانية عن الأولى؟
في هذا المستوى يحصل الأثر من محتوى الخريطة. مما لا ننتبه إليه أنه ليست لدينا خرائط مطابقة للواقع تمام المطابقة، حيث إن عملية التمثيل نفسها تتعرض أحياناً للتعميم، والتشويه، والحذف، بشكل تلقائي. وهذا طبيعي تماماً، بل هي ضرورة معرفية لكي يقوم النظام النفسي بدوره المطلوب بتكامل مع الجهاز العصبي. إلا أنه أحياناً ما نسجل خرائط تضرنا أو تعيقنا، وأحيانا ما نعجز عن تكوين الخرائط المفيدة التي يستجيب لها جهازنا العصبي الاستجابة المطلوبة. فلهذا يمثل محتوى الخريطة نقطة بداية مهمة لفهم تركيبة المعنى، إلا أنه لا ينتهي هنا
مستوى الخصائص التمثيلية
لا تقف صناعة الخريطة الذهنية وأثرها في المعنى عند الصورة والصوت والإحساس، بل كذلك عند خصائص كل منها. جرب مثلاً تخيل قطعة الحلوى تلك بشكل جذاب، زاهي الألوان، قريب من العين، كأنها محاطة بهالة براقة تقول هيت لك، وانظر لاستجابتك الداخلية. والآن تخيل نفس الصورة بمحتواها إلا أنها في ذهنك بالأبيض والأسود، قاتمة، بعيدة، هل تجد اختلافاً في الاستجابة؟
إن خصائص التمثيل الداخلي للتجربة تكون الشفرة المفتاحية لتأثر الجهاز العصبي، فترميز الصورة بالألوان يختلف عن ترميزها بالأبيض والأسود، وترميز الصوت بنغمة حادة يختلف عنه بنغمة غليظة، وهكذا. لهذا فإن من الأدوات الأساسية لممارسي البرمجة اللغوية العصبية فهم وتصحيح المعنى من خلال إعادة ترميزه بشكل صحيح، أو إتلاف الشفرة الفاسدة كما في بروتوكول الفصل البصري الحسي المستخدم في التخلص من الرهاب
من الجدير بالذكر أن أثر تغيير الخصائص التمثيلية للتجربة أمر ذاتي إلى حد كبير، فليست ما يصلح لزيد يصلح بالضرورة لعبيد
مستوى اللغة
إذا فهمنا مما سبق أن التمثيل الذهني للتجربة يحكم بعض المعنى، فهنا ينبغي أن نعلم أن هذا التمثيل ليس على رتبة واحدة، بل ثَم مستويات تلحق به تؤطره وتَحكمه، وهو ما نبدأ بالحديث عنه من هنا فصاعداً. أول مستويات المعاني في هذا النطاق هي اللغة، أي الألفاظ التي نعبر بها عن التجربة أو الحدث، والتي نترجمه داخلياً من خلالها. فبمجرد تسميتنا قطعة الحلوى “مكافأة” ينسحب معنى المكافأة إليها، وبالتالي تتغير الاستجابة الداخلية لها، فلم تعد مجرد “قطعة من الطعام ذي المذاق السكري” بل صارت “مكافأة”، فاكتسبت صفة معنوية إضافية ليست من خصائصها الذاتية
هذا المستوى في صناعة المعنى معروف بشكل ضمني لدى الباعة وخبراء التسويق. فمثلاً إذا انطلقت في القاهرة لأسواق الخضروات وجدتَ ركناً للخضروات “المستوية” (أي الناضجة في العامية المصرية)، يعرف الكل أن ما في ذلك الركن قد تجاوز حد الركن وأوشك على التلف، إلا أن الباعة يحرصون على تسميتها “مستوية” بدلاً من “التالفة” لمعرفتهم بأثر ذلك على الرغبة في الشراء
يقول الشاعر العباسي ابن الرومي:
تقول هذا مُجاجُ النحلِ تمدحُهُ *** وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما *** سحر البيان يُري الظلماء كالنور
ابن الرومي
مستوى الحُكم
ثم إننا نرى من يذهب إلى السوق فيبحث عن “الطماطم المستوية”، وآخر يُعرض عنها. فإن جميع ما سبق يخضع في النهاية لعملية تقويم وفقاً للمعايير الذاتية، فيخرج معنى جديد متحصل من هذا وهو الحكم. فهذا يرى شراء الطماطم المستوية توفيراً، وذاك يراها بُخلاً
مستوى الحكم هو حصيلة العرض على الموازين والقيم الشخصية، أيا ما كان مصدرها، وهي عملية لا شعورية عميقة تتم بشكل تلقائي طوال الوقت
مستوى الارتباط الشعوري
هنا نقوم بربط مشاعر ما بالتمثيل الذهني. فمثلاً نرى تلك التي ترفض “الخضروات المستوية” تأنف منها وتشعر بالنفرة منها، وهناك أخرى ليست كذلك رغم اشتراكهما في الرفض. وهذا بدوره حصيلة مجموعة معقدة من العمليات المعرفية-العصبية تبدأ من الاتصال البسيط أو التكييف الكلاسيكي (طبقاً لبافلوف) ومروراً بالشبكات المعقدة من المعاني المتراكبة
مستوى أنماط التفكير
خرج د. عبد الحكيم (وايت سابقاً) وودسمول بمفهوم البرامج العالية (Meta-Programs)، وهي عبارة عن مجموعة من المرشحات (الفلاتر) الإدراكية التي تحجب أو تمرر أو تعيد صياغة التجربة، فتراها بشكل يختلف تماماً عن الشكل الذي يراها به الآخر الذي بجوارك، تماماً لو أنك ارتديت نظارة ذات زجاج أحمر وآخر ارتدى نظارة ذات زجاج أزرق، فسيرى كل منكما شيئاً يخالف الآخر تماماً
من أمثلة البرامج العقلية العالية برنامج نوع السيناريو، فهل تنظر للأحداث من نظارة (توقع الأفضل) أم (توقع الأسوأ) أم غير ذلك؟ ومن البرامج الأخرى معيار التصنيف، فهل تصنف الاختيارات أمامك بطريقة (الأبيض أو الأسود) أم أنك ترى درجات الرمادي وألواناً أخرى؟
مستوى السردية
هذا المستوى من أهم المستويات، لأنه غالباً هو ما يعلق في أذهاننا ونحكيه لغيرنا ونؤكده لأنفسنا، وهو ما هي القصة، أو التعبير المجازي، أو الاستعارة، أو التشبيه الذي تصف به الحدث أو التجربة؟ فقطعة الحلوى التي “هي تلك الرقصة خيالية تسبح بك في سماء متناثرة النجوم” لم تعد مجرد قطعة حلوى بل ولا حتى مكافأة، لقد صارت تجربة وجدانية مكتملة الأركان متعددة الأبعاد والمعاني
من الجدير بالتأمل أن سردياتنا للأحداث هي أكثر المستويات اختياريةً ولاشعورية في آن واحد. فنحن نحكي القصص من منظورنا بالطريقة التي نرغب تصويرها بها لا بالطريقة التي وقعت، وهو ما يحمل الكثير من التحرير والتعديل، لهذا لا تكاد تتفق سرديتان لحدث واحد
ولكن الأهم هنا ليس هو دور السردية في إيصال المعنى للآخرين بل في صياغته لدى النفس. ولعل هذه هي أسهل المستويات تعديلاً ومن أعظمها أثراً على النفس والبدن
“ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله”
ابن تيمية
مستوى القصد
جزء من المعنى النفسي الذي يستجيب له الجهاز العصبي يأتي من الرغبات أو النوايا المستقبلية، أو القصود من وراء شيء ما. فلربما سارت كل المستويات الماضية في اتجاه وسار القصد في اتجاه آخر، كمن يسرق وهو يعلم أنه مخطئ لكنه يبرر لنفسه بأنه يسرق لكي يساعد الفقراء، أو كمريض سكر يعلم ضرر الحلوى ولكنه يأكلها مخافة أن ينخفض السكر في الدم بدرجة تعرضه للخطر
مستوى السياق
وفي الختام، يأتي السياق الخارجي (الأحداث) والداخلي (الأفكار الحالية والمشاعر) ليعيد تشكيل المعنى أحياناً. وهو ما يعطي ديناميكية عالية لمستويات المعاني ويوضح لنا الكثير من الفروق الفردية والاختلاف في المواقف
تنبيهات مهمة
- تتميز المعاني والأطر بالديناميكية، فهي قابلة للتغير، وليست بالضرورة ثابتة طوال الوقت
- لا فائدة كبيرة في البحث في البعد التاريخي لتكون المعنى، العبرة ببنيته الموجودة الآن
- تخضع المعاني لما يعرف في الفيزياء بتأثير المراقِب، فبمجرد محاولة الولوج في منظومة المعاني تصبح عرضة للتغير، وهو ما يتطلب براعة وحنكة في التعامل معها خصوصاً في سياق العلاج النفسي والكوتشينج
- نحن لا نشعر في الغالب بأي من تلك العمليات، بل هي تتم في مستوى لا شعوري ولهذا تؤثر فينا بدون أن نشعر. وهذا أمر نتكلم عنه باستفاضة في دورات البرمجة اللغوية العصبية والكوتشينج
- هذه المستويات ليست مراحل ولا خطوات متتابعة، بل هي مراتب بعضها فوق بعض، تتفاوت في التأثير تفاوتاً كبيراً يحتم على الناظر فيها مرونة وإسقاطاً لأية افتراضات مسبقة عن أثر أيّ منها في الحالة المعينة